كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما؛ وهذا قول علي بن عيسى.
واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هُدَد بن بُدَد.
وقيل: الجَلَنْدي؛ وقاله السهيلي.
وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبًا فقال: هو هُدَد بن بُدَد والغلام المقتول اسمه جَيْسور، وهكذا قيدناه في الجامع من رواية يزيد المَرْوزيّ، وفي غير هذه الرواية حَيْسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حَيْسون.
وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبًا فلذلك عابها الخضر وخرقها؛ ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدّم.
وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله: فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فَتجاوزَها، فأصلحوها بخشبة؛ الحديث.
وتحصّل من هذا الحضُّ على الصبر في الشدائد، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].
قوله تعالى: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} جاء في صحيح الحديث: «أنه طُبع يوم طُبع كافرًا» وهذا يؤيّد ظاهره أنه غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبرًا عنه مع كونه بالغًا؛ وقد تقدّم هذا المعنى.
قوله تعالى: {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا} قيل: هو من كلام الخضر عليه السلام، وهو الذي يشهد له سياق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين؛ أي خفنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة.
وقيل: هو من كلام الله تعالى وعنه عبَّر الخضر؛ قال الطبريّ: معناه فعلمنا؛ وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا، وهذا كما كنى عن العلم بالخوف في قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229].
وحكي أن أُبيًّا قرأ: {فَعَلِمَ ربك}.
وقيل: الخشية بمعنى الكراهة؛ يقال: فرّقت بينهما خشية أن يقتتلا؛ أي كراهية ذلك.
قال ابن عطية: والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين.
وقرأ ابن مسعود {فخاف ربك} وهذا بين في الاستعارة، وهذا نظير ما وقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترجٍّ وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون.
و{يرهقهما} يجشّمهما ويكلّفهما؛ والمعنى أن يلقيهما حبُّه في اتّباعه فيضلاَّ ويتدينا بدينه.
قوله تعالى: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال.
وقرأ عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال؛ أي أن يرزقهما الله ولدًا.
{خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً} أي دينًا وصلاحًا؛ يقال: بدّل وأبدل مثل مَهَّل وأمهل ونَزَّل وأنزل.
{وَأَقْرَبَ رُحْمًا} قرأ ابن عباس {رُحُمًا} بالضم، قال الشاعر:
وكيف بظلم جاريةٍ ** ومنها اللِّينُ والرُّحُمُ

الباقون بسكونها؛ ومنه قول رؤبة بن العَجَّاج:
يا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدريسَا ** ومُنْزلَ اللَّعْنِ على إِبليسَا

واختلف عن أبي عمرو.
و{رحما} معطوف على {زكاة} أي رحمة؛ يقال: رَحِمه رحمة ورحما؛ وألفه للتأنيث، ومذكره رُحْم.
وقيل: إنّ الرُّحم هنا بمعنى الرَّحِم؛ قرأها ابن عباس {وأَوْصَلَ رُحْمًا} أي رَحِما، وقرأ أيضًا {أزكى منه}.
وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بُدِّلا جارية؛ قال الكلبيّ فتزوّجها نبيّ من الأنبياء فولدت له نبيًا فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم.
قتادة: ولدت اثني عشر نبيًا، وعن ابن جريج أيضًا أنّ أمّ الغلام يوم قتل كانت حاملًا بغلام مسلم وكان المقتول كافرًا.
عن ابن عباس: فولدت جارية ولدت نبيًا؛ وفي رواية: أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيًا؛ وقاله جعفر بن محمد عن أبيه؛ قال علماؤنا: وهذا بعيد ولا تُعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم؛ ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعًا من الأكباد، ومن سَلَّم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء.
قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين وُلد وحَزِنا عليه حين قُتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فالواجب على كل امرىء الرضا بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ} هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم، واسمهما أصرم وصريم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا يُتْم بعد بلوغ» هذا هو الظاهر.
وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين، على معنى الشفقة عليهما.
وقد تقدم أن اليتم في الناس من قِبل فقد الأب؛ وفي غيرهم من الحيوان من قبل فَقْد الأم.
ودل قوله في المدينة على أن القرية تسمى مدينة؛ ومنه الحديث: «أُمرتُ بقرية تأكل القُرَى» وفي حديث الهجرة «لمن أنت» فقال الرجل: «من أهل المدينة»؛ يعني مكة.
قوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} اختلف الناس في الكنز؛ فقال عِكرِمة وقتادة: كان مالا جسيمًا وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع؛ وقد مضى القول فيه.
وقال ابن عباس: كان عِلمًا في صحف مدفونة.
وعنه أيضًا قال: كان لوحًا من ذهب مكتوبًا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وروي نحوه عن عكرمة وعمر مولى غُفْرة، ورواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دِنْيَةً.
وقيل: هو الأب السابع؛ قاله جعفر بن محمد. وقيل: العاشر فَحُفِظا فيه وإن لم يُذْكَر بصلاح؛ وكان يسمى كاشحًا؛ قاله مقاتل. واسم أمهما دنيا؛ ذكره النقاش. ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه.
وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته؛ وعلى هذا يدل قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} [الأعراف: 196].
قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يقتضي أن الخضر نبي؛ وقد تقدم الخلاف في ذلك.
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ} أي تفسير.
{مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} قرأت فرقة {تَسْتَطِعْ}.
وقرأ الجمهور {تَسْطِعْ} قال أبو حاتم: كذا نقرأ كما في خط المصحف.
وهنا خمس مسائل:
الأولى: إن قال قائل لم يسمع لفتى موسى ذكر في أوّل الآية ولا في آخرها، قيل له: اختلف في ذلك؛ فقال عكرمة لابن عباس: لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال: شرب الفتى من الماء فخلّد، وأخذه العالِم فطبَّق عليه سفينة ثم أرسله في البحر، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه.
قال القشيريّ: وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون؛ فإن يوشع بن نون قد عُمّر بعد موسى وكان خليفته؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر.
وقال شيخنا الإمام أبو العباس: يحتمل أن يكون اكتفى بذكر المتبوع عن التابع؛ والله أعلم.
الثانية: إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} فأضاف العيب إلى نفسه؟ قيل له: إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك الذي أعلمه الله تعالى أنّه يريده.
وقيل: لما كان ذلك خيرًا كله أضافه إلى الله تعالى، وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب، لأنها لفظة عيب، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فأسند الفعل قبلُ وبعدُ إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقص ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما قال تعالى: {بِيَدِكَ الخير} [آل عمران: 26] واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء خبير.
ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة: «يا ابن آدم مرضتُ فلم تَعُدْني واستطعمتُك فلم تُطعمني واستسقيتك فلم تَسقني» فإن ذلك تَنزُّلٌ في الخطاب، وتلطُّف في العتاب، مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال، وبمقادير ثواب هذه الأعمال. وقد تقدّم هذا المعنى. والله تعالى أعلم.
ولله تعالى أن يطلق على نفسه ما يشاء، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الأوصاف الجميلة، والأفعال الشريفة. جل وتعالى عن النقائص والآفات علوًا كبيرًا.
وقال في الغلام: {فأردنا} فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى.
والأشد كمال الْخَلْق والعقل.
وقد مضى الكلام فيه في الأنعام والحمد لله.
الثالثة: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هدم الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم.
وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفُهوم.
وقد جاء فيما ينقلون:
استفت قلبك وإن أفتاك المُفْتون.
قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما عُلم من الشرائع؛ فإن الله تعالى قد أجرى سنّته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلّغون عنه رسالته وكلامه، المبيّنون شرائعه وأحكامه؛ اختارهم لذلك، وخصّهم بما هنالك؛ كما قال تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75] وقال تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقال تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 213] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، وإجماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقًا آخر يُعرَف بها أمرُه ونهيُه غيرَ الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر، يُقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام؛ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبيّ بعده ولا رسول.
وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوّة، فإن هذا نحو ممّا قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نَفثَ في رَوْعي» الحديث.
الرابعة: ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة: إنّه حيّ لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض، وأنه يحج البيت.
قال ابن عطية: وقد أطنب النقَّاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، وكلها لا تقوم على ساق.
ولو كان الخضر عليه السلام حيًا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور؛ والله العليم بتفاصيل الأشياء لا ربّ غيره.
ومما يقضي بموت الخضر عليه السلام الآن قوله عليه الصلاة والسلام: «أرأيَتكم ليلتَكم هذه فإنه لا يَبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ».
قلت: إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، والصحيح القول الثاني وهو أنه حيّ على ما نذكره.
وهذا الحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلّم قام فقال: «أرأيَتكم ليلتَكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدٌ» قال ابن عمر: فَوَهَل الناسُ في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدّثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة؛ وإنما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» يريد بذلك أن يَنْخرِم ذلك القَرْن.